“مدمنوا العملات المشفرة”: لبنانيون يحتاجون علاجاً
يشعر مارك بقلق وتوتر إذا سهت عيناه عن مراقبة تقلبات أسعارها، فلا يكاد يمر يوماً إلا ويتداولها، يمضي ساعات طويلة على هاتفه الذكي لتتبعها، تستحوذ على تفكيره وتعطله عن استكمال أعماله وتبعده عن دينه وصلاته، هو متعلق إلى حدّ “الهوس والإدمان” وإن لم يتلقى “الجرعة” فينتابه حالات عصبية، يبتعد عن كل شيء، يهمل حياته الشخصية والاجتماعية بهدف تكوين الثروات “تداول العملات المشفرة طريقة سهلة للثراء” لكن محاولاته تبوء بالفشل وتعرضه للخسارة في معظم الأوقات وما زال يرفض الاستسلام ويستمر في مغامرته.
مارك (35 عاماً) مهندس مدني، دخل غمار الاستثمار في العملات المشفرة منذ عامين بعد توقفه عن العمل بسبب الازمة الاقتصادية في لبنان، فالملل واليأس من إيجاد فرصة عمل تؤمن له مدخولاً يعتاش منه دفعاه لخوض التجربة فبدأ “بالبيتكوين” وهي الأكثر شهرة في هذا العالم لينتقل بعدها إلى “الإثيريوم” التي أصبحت أكثر جاذبية.
يمضي مارك ساعات طويلة في مراقبة وتداول العملات المشفرة، حتى دخل مؤخراً في إحدى المجموعات على انستغرام التي تقوم بدراسة حركة السوق وتعطيه إشارة بأنسب الأوقات للتداول مقابل مبلغ مادي يدفعه لهؤلاء المحترفين.
فهل أصبح مدمني تداول العملات المشفرة بحاجة للعلاج النفسي؟
الخبير الاستراتيجي البرفسور بيار الخوري يقول لـ “أحوال ميديا” أنه “بالتأكيد هناك موجة من الإدمان على العملات المشفرة، وهذا الأمر ليس مقتصراً على لبنان فقط بل هو يمثل ظاهرة عالمية لدى مجموعة واسعة من المستثمرين والهواة. لكن علينا أن نمييز بين مستويين من الاندراج في العملات المشفرة: المستوى الأول هو تعدين البيتكوين وهذه عملية انتاجية لا يمكن إدراجها تماماً في معيار الإدمان كونها تقوم بانتاج فوائض مادية حقيقية قائمة على استثمار حقيقي في أجهزة التعدين وفي استهلاك الكهرباء المصاحب لها. هذه العملية تقوى وتنخفض بحسب الكلفه المتغيرة للانتاج والمتمثلة بسعر الكهرباء وكذلك حجم القدرة على الاستثمار”.
ويتابع “في لبنان انخفض كثيراً مستوى التعدين بعد ارتفاع متوسط سعر الطاقة الكهربائية في بيروت مع تحرير أسعار منتجات الطاقة وكذلك مع انخفاض سعر البيتكوين عالمياً لأكثر من ٤٠% بعد أن بلغ ٦٥ ألف دولار فيما هو اليوم عند حدود ٣٧ ألف دولار لكل قطعه بيتكوين. رغم ذلك يبقى هذا العمل عمل انتاجي صافي بغض النظر عن مدى توفر الرأسمال لدى المستثمرين وشروط الربحية فيه. أما المستوى الآخر من التورط في البيتكوين والعملات المشفرة فهو المتمثل بمستوى الاتجار أي عبر التدخل في أسواق العملات المشفرة بيعاً أو شراءً بشكل يومي أو دوري كثيف، وهذا يعرض المتورطين في هذا السوق للمخاطرة المرتفعة الذي ينطوي عليه الاستثمار بهذه العملات التي تتميز بحدة التقلب وسرعته. بالاجمال في الاسواق التقليدية يعاني المتاجرون من احتمال خسارة 86% منهم لرأسمالهم أما في سوق العملات المشفرة بهذه النسبة اعلى ايضا”.
ويضيف الخوري “صحيح أن هناك احتمال لتكوين ثروة سريعة من خلال الارتفاع السريع لسعر العملات المشفرة ولكن الصحيح أيضاً أن احتمال الخسارة الواسعة قائم بشكل أكبر خصوصاً لدى المتعاملين غير المحترفين أو الهواة لكن الادمان على اتجار العملات المشفرة يجد جذره النفسي في حلم الثروة، خاصة لدى فئة الشباب والثروة السريعه التحقق بالتحديد. كذلك تتميز فئة الشباب بحب المخاطرة الواسعة، ولن تجد مكانا اليوم في أي سوق استثماري قادر على الجمع القوي بين هذين المعطيين كأسواق العملات المشفرة: مستوى مخاطرة غير مسبوق على مستوى كل الأصول وروح مغامرة غير مقارنة على مستوى الشباب”.
ويلفت إلى أنّه في لبنان يكتسب هذا الحلم وهذه المغامرة أبعاداً إضافية كونهما يرتبطان بانعدام الأفق الاقتصادي وتبدد حلم الثروة وحلم الترقي الاجتماعي بسبب الأزمة العنيفة التي ضربت البلاد اعتباراً من خريف العام 2019، وبذلك يصبح إدمان اتجار العملات المشفرة له أسبابه الاقتصادية والنفسية على حد سواء”.
مشيراً إلى أنّ “انعدام الأفق يدفع الشباب مثلا إلى رؤيه متحيزة لتجارب غيرهم و بعض الشيء سطحية. فإذا سمعوا أن فلانا ً قد كوّن ثروة سريعة من الاتجار بالعملات المشفره كأيلون ماسك مثلا، ودون دراسة الشروط والبيئة التي تم من خلالها تكوين هذه الثروات فإن ذلك يدفع بهم إلى التماثل مع هذه الشخصيات إلى درجة الحلم بأن يتحولوا إلى أشباه لهم بناء على قدرات شخصيه مزعومة لا على منتجات العلم المرتبطة بالاستثمار”.
دعونا نلاحظ أن كل الشعوب التي واجهة أزمات اقتصادية واجتماعية عنيفه يزداد لديها الميل نحو المقامرة وهي أعلى درجات المخاطرة بالمال لكونها لا تستند إلى مبدأ المخاطرة المحسوبة وهذه الأخيرة هي عصب الاستثمار المالي على عكس المقامرة. إذن نحن أمام مزيج من حلم الثروة السريع والمقامرة غير المحسوبة، بحسب الخوري.
إذاً، حين نتحدث عن إدمان الشباب على التّورط في الاتجار بالعملات المشفرة لا يجب أن نتجاهل الفئة الأكثر وعياً لمخاطر الاستثمار بين الشباب وغيرهم والتي تعي أنه لا يوجد شيء مجاني و لا يمكن تعظيم القيمة بدون الاستناد إلى قوانين العلم وخاصة علم الاحتمالات، والتي تعمل بتأني لبناء استثمارات طويلة الأجل في عالم المشفرات، أي اأها استثمارات تفترض أن هناك مستقبل كبير للعملات المشفرة، وهذا افتراض جدي جداً بدليل أن المؤسسات الكبرى باتت تشكل محافظها بعض العملات المشفرة الرئيسيه عبر العالم، ولكنه يتطلب دراسة متأنية وعدم التدخل الدوري الكثيف في الأسواق واختيار عملات مشفرة معينة تستطيع أن تؤكد وجودها وديمومتها في المستقبل وشرائها بشكل منتظم وعدم التورط في عمليات البيع والشراء التي تؤدي في النهاية إلى تأكل ذلك الرأسمال الصغير الذي يحوزه هؤلاء المقامرون- المغامرون.
ويختم الخوري: “علينا أن نتذكر دائماً القواعد الذهبية للاستثمار وهي ثلاث، أولاً حسن الاختيار، ثانياً طول البال، وثالثا الابتعاد عن الطمع”.